إعداد: وفاء ريحان
يعد تطوير رأس المال البشري أمراً مهماً في أي مجتمع كونه من أهم عناصر عملية التنمية. وتعطي الدول تأهيل العنصر البشرى الأولوية في استراتيجيات التنمية ليشارك الأفراد بفاعلية في مجتمعاتهم. وتعتبر دول مجلس التعاون الخليجي من أكثر المجتمعات العربية التي تُولي أهمية كبرى لتنمية ثروتها البشرية، حيث تسعى إلى تعزيز ثقافة اقتصادات المعرفة لديها.
وفي هذا الإطار، نشر "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" CSIS تقريراً أعدته "كارولين بارنيت" Carolyn Barnett - باحثة في برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية - تحت عنوان: "رأس المال البشري ومستقبل الخليج"، تناولت فيه الآليات التي تنتهجها الحكومات الخليجية في بناء وتنمية رأس المال البشري، والتحديات التي تواجهها في هذا الصدد، ثم تتطرق الباحثة إلى التغيرات الجارية فيما يتعلق بتنمية العنصر البشري في دول الخليج.
بناء رأس المال البشري في الخليج
توضح الكاتبة عناصر بناء وتنمية العنصر البشري في منطقة الخليج العربي، وتتمثل من وجهة نظرها في الآتي:
1- الاستثمارات في التعليم:
تشير الباحثة إلى أن جهود تحسين رأس المال البشري في دول الخليج العربي تُركز بالأساس على الاستثمار في التعليم. ومثل بقية دول الشرق الأوسط، تم التوسع في البنية التحتية التعليمية في منطقة الخليج خلال النصف الأخير من القرن العشرين. وتنفق الحكومات الخليجية مليارات الدولارات من أجل بناء المدارس وإعداد العاملين بها؛ فالسعودية - على سبيل المثال - تُخصص نحو 17- 20% من إجمالي إنفاقها على التعليم، فيما تكرس الإمارات أكثر من 20% من إجمالي الإنفاق الحكومي على التعليم أيضاً.
وتزعم الكاتبة أن هذه الاستثمارات الضخمة لم يصاحبها تحسن في جودة التعليم، فمازالت مستويات الطلبة الخليجيين في الامتحانات الدولية منخفضة عن المتوسط العالمي. وتعمل الحكومات الخليجية على مدار السنوات الماضية على وضع الاستراتيجيات لتحسين جودة التعليم، والبعض منها يُنفذ الآن.
2- التعليم الوظيفي Career Education:
تسعى الحكومات والمؤسسات المختلفة إلى تطوير رأس المال البشري، وذلك عن طريق الاهتمام بالتعليم الوظيفي إلى جانب التعليم التقليدي. فكثير من الشباب بحاجة إلى التأهيل على معرفة احتياجات سوق العمل، خاصةً أن معظم الطلبة يأتون من أسر يعمل أفرادها بالقطاع العام، لذلك فهم لا يعرفون كثيراً عن المهن المتاحة خارج نطاق هذا القطاع.
ويشير التقرير إلى أن عدداً كبيراً من الشباب الخليجي يُنهى دراسته ويدخل سوق العمل بدون خبرة سابقة؛ فحوالي 32% من الشباب في الإمارات، و43% في عمان والسعودية والكويت ليس لديهم خبرة عمل قبل وأثناء الدراسة بالجامعة.
3- التعليم المهني vocational education:
تستثمر الحكومات الخليجية في برامج التدريب المهني الناجحة على الرغم من أنها لا تصل لكثير من الأفراد، ويرجع ذلك إلى عاملين؛ أحدهما يتمثل في العوامل الاقتصادية، على اعتبار أن الوظائف ذات الأجر المرتفع لاتزال في متناول اليد. والعامل الآخر هو التحيز الاجتماعي ضد الوظائف المهنية، حيث إن قليلاً من الأفراد يريد الحصول على هذه الوظائف ذات الأجر المنخفض.
ويُضاف إلى ذلك، أنه من اليسير حصول الطلبة على التعليم غير المهني؛ ففي السعودية نجد أن نحو 90% من خريجي المدارس الثانوية يلتحق بالجامعة، وتوجد بعض المبادرات من قِبل القطاع الخاص بمشاركة المؤسسات التعليمية تعمل على توفير وظائف للخريجين.
4- تنمية ريادة الأعمال:
يوضح التقرير أن برامج ريادة الأعمال تعتبر الأكثر رواجاً فيما يتعلق بتطوير رأس المال البشري، لذلك نجد مبادرات لتوفير التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة، ونوادي ريادة الأعمال بالمدارس. كما يشجع صانعو القرار بدول الخليج الشباب ليكون لديه مزيد من روح المبادرة، وفي هذا الصدد أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة أن عام 2015 هو عام الابتكار.
ومن الصعب الحكم على مدى نجاح التطورات في تجارب ريادة الأعمال بالمنطقة، لأن كثيراً منها حديث جداً. وتتصدر الإمارات دول مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بتطوير وتوسيع بيئة ريادة الأعمال بها.
تحديات التنمية البشرية في الخليج
تؤكد الباحثة أن دول الخليج تستثمر بكثافة في جهود مساعدة الأفراد على التعلم والنجاح، وذلك في ضوء استراتيجيتها لخلق اقتصادات مبنية على المعرفة، اعتماداً على توقعات كبرى لمخرجات هذه الجهود.
وعلى الرغم من أن النتائج لم تأت على النحو المرجو، لكنها أسهمت في إحداث بعض التغيرات الاجتماعية. وقد أشار التقرير إلى التحولات التي طرأت على الأجيال في المنطقة، وتمثلت بعض مظاهرها في أن الشباب أصبح أكثر وعياً وتنظيماً، ولديه روح المبادرة والتطلع إلى الخارج مقارنةً بالماضي.
وفيما يلي عرض لأبرز التحديات التي تواجه عملية تنمية رأس المال البشري في دول الخليج:
1- تحديات ثقافية: توضح الكاتبة أنه أثناء عملية دعم قدرات المواطنين، تعمل الحكومات على رفع مستوى توقعاتهم وطموحاتهم، ولكن ثمة تحديات في هذا الصدد – من وجهة نظر الكاتبة - تتعلق بالأنماط الثقافية السائدة في المجتمع، والتي تؤثر مثلاً على دور المرأة في دول مجلس التعاون الخليجي. وترى الباحثة أنه على الرغم من ارتفاع مستوى التحصيل التعليمي للنساء في الخليج إلا أن فرص العمل بالنسبة لهن لاتزال قليلة، بسبب القيم الثقافية المحافظة.
2- تعزيز الامتيازات بالقطاع الخاص: في محاولة لتحفيز المواطنين على العمل في القطاع الخاص، يتم تقديم الدعم لهذا القطاع من خلال الإعانات والبرامج الخاصة والمكافآت، مع استمرار البحث عن بدائل وحلول أخرى تدفع الأفراد للعمل في غير القطاع الحكومي الذي ينظرون إليه على أنه مليء بالحوافز والامتيازات. كما تقدم شركات القطاع الخاص الخدمات والمزايا لموظفيها لجذب مزيد من العمالة إليها.
3- إبعاد غير الفاعلين: لدى العديد من دول مجلس التعاون الخليجي برامج ومشروعات تعالج احتياجات الفئات المهمشة، وقد نفذت بعض هذه الدول برامج لتشغيل ذوي الاحتياجات الخاصة، غير أن التقرير يشير إلى أن صانعي القرار والمخططين يعمدون إلى إبعاد بعض الفئات المجتمعية لأنها من غير المرجح أن تسهم في اقتصاد المعرفة، ومن هؤلاء كبار السن الذين من الصعب تكيفهم مع بيئة العمل الجديدة.
التغيرات الجارية
تشير الباحثة إلى أن ثمة فكرة يتم ترويجها في منطقة الخليج العربي مفادها أن الحكومات والمواطنين لابد أن يعملوا على تعزيز ثقافة المخاطرة، وتشجيع العمل التطوعي، والاتجاه نحو مزيد من المعرفة المُنتجة محلياً. وتوضح الكاتبة ذلك فيما يلي:
1- الاستفادة من التجارب السابقة: لمواجهة عزوف بعض المواطنين عن المخاطرة، تحول صانعو القرار إلى دعم الاستفادة من التجارب السابقة. لذا نجد العديد من المشروعات تُسلط الضوء على ما يُسمى "خبرات الفشل" مثلما يحدث في الإمارات والسعودية مؤخراً؛ فقد عُقد في مدينة دبي عام 2014 ما سُمى "failcon" وهو بمثابة منتدى يتحدث فيه أصحاب المشروعات ورجال الأعمال عن الدروس المستفادة من المشاريع غير الناجحة، وكيفية تحقيق النجاحات.
2- أهمية العمل التطوعي: يوضح التقرير أن المدارس والمهن المختلفة لا تمثل فقط الأماكن الوحيدة لتعلم المهارات وبناء الشخصية، حيث تعد الخدمات العامة وسيلة أخرى لذلك. وتؤكد الكاتبة أن الاهتمام بالأعمال التطوعية يساهم في تطوير رأس المال البشري بالخليج، وقد ازداد معدل تطوع الشباب في المؤسسات الخيرية والاجتماعية خلال العقد السابق، ومن الأمثلة على ذلك "مؤسسة الإمارات لتنمية الشباب" التي سُجل بها أكثر من 33 ألف متطوع تعمل المؤسسة على تنمية مهاراتهم.
3- إنتاج المعرفة محلياً: تشير الكاتبة إلى أن تبني قيم المخاطرة والتطوع سيجلب كثيراً من التغير للمجتمعات الخليجية، وهذا التغير يأتي من الاهتمام المتزايد بالمعرفة وصنع القرار المنتج محلياً. وتوجد بالفعل مؤسسات في السعودية والإمارات وغيرهما من دول الخليج منوطة بها دراسة المشكلات الخاصة بالمجتمع وإيجاد حلول لها. وهذا التقدم في جهود خلق مجتمع بحثي محلي يدل على مدى نجاح الخطوات الأولى في تنمية رأس المال البشري بدول مجلس التعاون الخليجي.
ختاماً، تؤكد الباحثة "كارولين بارنيت" أن الحكومات الخليجية تسعى إلى دعم اقتصادات المعرفة، بما يؤدي إلى تغيير اتجاهات الأفراد، بحيث يتعلمون التفكير النقدي وروح المبادرة والقدرة على الابتكار.
* عرض مُوجز لتقرير عنوانه: "رأس المال البشري ومستقبل الخليج"، والصادر في شهر نوفمبر 2015 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومقره واشنطن.
المصدر:
Carolyn Barnett, Human Capital And The Future Of The Gulf (Washington: Center For Strategic and International Studies, November 2015).